الأربعاء، 17 أغسطس 2011

الإنسان أكثر سعيدة قديماً أم حديثاً؟


الإنسان الأكثر سعادة هل هو الإنسان القديم أم الحديث؟

لنأتي أولاً وقبل أن ندخل بالموضوع, فنسأل ما معنى كلمة"إنسان" ؟؟
نستخدم هذه الكلمة للدلالة على النقص فنقول : "كل إنسان يخطئ" أو اعذرني فأنا أبقى إنسان
بينما في بعض الأحيان نستخدم ذات الكلمة للدلالة على أن الناس كائنات عليا متفوقة فنقول عن المجرم : هذا ليس إنساناً , هذا حيوان


وكما نرى الإنسان على طراز ((داروين)) الذي تطور عن القرد هو أحد أقل الكائنات قدرةً على التنظيم, وهو شديد التأثر بالمشاعر لدرجة أنه قد يموت دفاعاً عن صديقه أو وطنه أو عن شرفه ...ولم يكن الإنسان منظماً, وربما ما توصل إليه الإنسان في العصر الحديث من قدرة على التنظيم لا يساوي جزءاً بسيطاً من التنظيم الموجود عند النحل الذي لا مجال فيه للخطأ

باختصار لا يمتلك الإنسان خاصية المناضلة لأجل الحياة, بقدر ما يمتلك من دوافع مناضلة داخلية لأجل الوطن أو الدين أو قرابة الدم ...فجميع الحيوانات هدفها النجاة والتي تتفوق في هذا المجال فهي التي تبقى وما عدى ذلك فإنه ينقرض ومن هنا انطلق الكثير لنقض نظرية داروين
فلنترك داروين وشأنه الآن
فبغض النظر عن دوامة التطور فإننا نختلف عن الحيوان بمسألة الإبداع بينما يتفوق علينا بمسألة الإتقان فهو يقوم بعمله على أكمل وجه بدون كسل أو تردد ... فهو يعرف واجبه ويقوم به بصورة "حيوانية", وهذا ما مكن الحيوان من البقاء... بينما يختلف الإنسان كثيراً


فعلى مدى القرون, تميز الإنسان بالإبداع الروحي... الإبداع الفني, الإبداع والأخلاق والتواصل والحب والتضحية وكل ما نطلق نحن عليه "القيم", هو ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات فهذه الروح التي يتمتع بها, روح التضحية في سبيل معتقداته, فهو مستعد للتضحية بروحهوهو دائماً يضحي بالمتعة لأجل ما يعتقد من أجله, فترك المحرمات في كافة الأديان, والصلاة والصيام وغيرها وبعد ذلك يصف الإنسان كل هذه التضحيات باللذة الحقيقية والسعادة الأزلية


ربما بدأت تربط الآن ما أقصده بهذا الكلام وبعنوان الموضوع ... ولكن اسمح لي وقبل أن أدخل في صلب الموضوع أن أطرح هذه التساؤلات
لماذا ارتبطت حقيقة أنه كلما زاد المستوى المعيشي والحضارة والرعاية الاجتماعية كلما زادت الجريمة والأمراض النفسية ... والأهم من ذلك حالات الانتحار, سواء كان ذلك في عهد الحضارات الرومانية العظيمة أم في عصور الظلام
 وهذه ملاحظة المفكرين عبر التاريخ وليست حكراً على العصر الحديث
فإذا أتينا للعصر الحديث, في السويد التي تتمتع بأعلى كفالة اجتماعية في العالم (لا أذكر الرقم ولكنها أكثر من 2000 دولار للشخص) وأعلى خدمات للاتصالات بالإضافة إلى التعليم الممتاز والحقوق الكاملة... فلم إذاً تزامنت مع تحقيق أعلى رقم لحالات الانتحار في العالم ؟؟؟
يليها مثيلاتها على الترتيب مثل بريطانيا, ألمانيا , الدنمارك, وأمريكا ومعظم الدول الغربية المتقدمة ترتفع فيها حالات الإنتحار بينما في شعوب شرق آسيا الفقيرة والهادئة تنخفض هذه الأرقام كثيراً ...ولا أريد ذكر الدول الإسلامية الآن ولو أنها داخلة في الموضوع ولكن كي لا يصبح الموضوع عن علاقة الإسلام بذلك _سأتحدث عن ذلك لاحقا_

يبدو أن الجواب واضح ... في الحقيقة الموضوع هو اختصار قصير جداً لكتب عملاقة ودراسات مفكرين وفلاسفة ... أذكر هنا ((علي عزت بيجوفتش)) الرئيس المسلم لجمهورية البوسنة والهرسك وكتابه ((الإسلام بين الشرق والغرب))
وبالرغم ما يحصل عليه من أبناء الحضارة من متع جسدية كثيرة, إلا أنهم أكثر الناس يعانون نفسياً
حاجة الإنسان وإحساسه بل وحبه لجماليات عناصر الحياة الروحية هي العنصر المفقود في هذه الدول ... لنرجع مرة أخرى للحضارة والدول
فسنجد أن مصطلح "العلم" منفصل تماماً عن مصطلح "الثقافة", وهناك العديد من الأمور التي يخلط الناس بينها وهي متناقضة كل التناقض , العلم ضد التأمل, الحضارة ضد الثقافة, التطور ضد الفن ولكل واحدة منها ستجد بدراسات مفصلة هذا التناقض الواضح
فعلى سبيل المثال , نحن لازلنا نستمتع بأقدم المنحوتات والرسومات القديمة, وبالرغم من تطور أدوات الفن إلا أن الفن كإحساس لم يتغير... والدليل هو بحث جميع متذوقي الفن عن الفنون القديمة, والاستمتاع بها,حتى في فنون الرسم على الجدران التي قد يضحك عليها طفل في السابعة من عمره,ولكن لأنها تنقل لهم الحالة النفسية للفنان كما كانت في عصره فيعيش معها المتذوق لحظة وبساطة ذلك العصر
بينما لو نقدنا هذه الأعمال بشكل علمي, فإنها "قد" تكون أضعف بكثير من بعض الأعمال الحديثة ...
لذا يمكن القول :
أن قيمة الأعمال الفنية القديمة, لم تتغير فنياً
ولكن تغير فيها استخدام الآلات الحديثة والتي قد تضفي المزيد من النكهة
ولا يمكن مقارنة أعمال بعض الفنانين الهواة في هذا العصر بكل آلاته المتطورة برسومات دافنشي, ولا بمعزوفات بتهوفن, فإذاً ما يهم بالفن, هو روح القصة, روح الأغنية, ولا يهم ما إذا تماشت مع العصر الحديث أم لا وثقافته ... ببساطة نحن نحب الفن لأنه يلمس مشاعرنا الإنسانية في الداخل , في نصفنا الغير عملي, الداخلي, الروحي, بحثنا عن حقيقة الوجود, بحثنا عن الحب, أو عن هدف حقيقي نعيش لأجله, سمه ما شئت, هو الأمر الذي يميزنا عن الحيوان  وقد نجح عظماء الفن بتقديم العمل الذي يحقق هذا المطلب الذي نريده
صورة لأحد رسومات الكهوف القديمة


نأتي لقدرة البدو على استخدام التراكيب اللغوية المعقدة في الشعر, وحتى في حديثهم العادي, واستخدام التشبيهات والمقارانات, واستخدام الجمل المفيدة والنقاش بشكل منطقي والاستشهاد بالشواهد بالرغم ما نتهمهم به من جهل, يجعلك تشعر بمعنى الثقافة بالرغم من جهلهم العلمي

فالحكمة, التضحية, المبادئ, الأخلاق, الفن وكل ما يمكن أن ندعوه : "تطور الإنسان من جانبه الإنساني" وليس الجانب الحضاري
بينما إذا أتينى إلى أهل المدن, فإننا نجد التدني الواضح للجانب الإنساني, إذا أخذنا الشريحة العامة منهم, فإننا سنلاحظ, التحليلات الغبية المبنية على كلمتين سمعها الشخص في التلفزيون أو الراديو, سنلاحظ أيضاً عدم قدرة أهل المدن على التعبير في كثير من الأحوال ... فعلى سبيل المثال, فلنأخذ البدوي الذي يتمتع بجلافة وقسوة شديدتين, ونتهمه بأنه عديم الإحساس والمشاعر سنجده يتفنن في الغزل مع محبوبته, بينما تصعب على الإنسان المرفه والناعم من أهل المدن إيجاد أكثر من كلمة لوصف الحب,أو ربما كلمة سمعها هنا أو هناك عبر الإذاعات, وحتى إن كان البدوي لا يسمع الشعر, فإن مجرد ترحاله ورؤيته للطبيعة وتأمله لساعات في "الفلا", وجلسات السمر في ليالي الشتاء الباردة, ستنمي عنده ذوقاً وإحساساً, قد لا يفهمه أو لا يشعر به الإنسان المتمدن  

فما ما يتمتع به الإنسان القديم, من روحانيات وإن كان بعضها أديان خرافية, تجعل لحياته معنىً وقيمة, وقدرته على التأثير, وحرية التعبير, بل وحتى حرية التفكير التي حرم منها أبناء الشعوب المتحضرة, بما يواجهونه من أفكار وحلول جاهزة تنقل إليهم عبر وسائل الإعلام,, وإيصال شكلهم بشكل وهمي عبر "الفيس بوك" ليسمع أصدقاؤهم فقط بما يدور 

ولنكن واقعيين, ما معظم "الستاتس" التي يضعها الناس في "الفيس بوك", ولنتكلم عن المستخدمين اللذين ندعوهم "مثقفين" من الغربيين, معظمها أخبار بشتى صورها_وإن كانت مهمة فهي لا تمثل هذه الإنسانيات التي نتكلم عنها_ أو أخبار شخصية تافهة, إن اكترث بها أحدهم فإنه سيضغط على الزر"أعجبني" ,, ومن يستفيد من هذه المواقع يستفيد من المنشورات والفيديواهات (علمياً) وليس (ثقافياً) في الغالب

من في هذا العصر سيجد موقفاً ليقف ويقول:"من أراد أن تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الوادي"؟ ومن سيجد أن قبيلة بأسرها ستثأر لأجله إذا انتهك دمه, أو ماله_لست هنا لأدافع عن القبلية ولكن لا تخبرني أن هذا هو نفس القوانين التي تحمي الشخص في العصر الحديث _ إذا وجدنا مثل هؤلاء الأشخاص في عصرنا الحالي فستجدهم أبناء مناطق أو قرى قبلية غير متحضرة, فهناك يشعر الإنسان بقيمته واستقلاله, ليست قيمته كجزء أو كطوبة من المجتمع, بل قيمته كإنسان بشكل مستقل, فهو مكرم وعزيز لمجرد أنه إنسان

ففي نظام القبيلة مثلاً, كل شخص محمي لشخصه, فلا حاجة هنا لشرطة ولا لأمن, فالفضيلة _والفضيلة وحدها_ وبقية الأخلاق  والأعراف دليلاً للمسالم, ورادعاً لمعتدي. فأنت لن تتعدى على "شرف القبيلة"  لا لأنك خائف من القوانين, بل بسبب أنك تؤمن بقيمة اسمها شرف القبيلة

ربما لم تصل الصورة بشكل كامل, وأتمنى أن المثال التالي سيوصلها, وبالمناسبة فكرة المثال ليست من عندي بل لأحد المفكرين _بتصرف_
ففي جميع اليوتوبيات ((الطوبيا - الدول الكاملة)) التي فكر فيها المفكرين
سيتم توفير لأبناء هذه الدولة المتطورة أموراً جبارة كاملة, بالإضافة لحق التعليم الممتاز لكل شخص, فله حقوق الحماية الكاملة, والاتصالات والإنترنت والاقتناء وتوفر له كافة مطالبه وشهواته الجسدية بأعلى مواصفات, فالجميع يأكل أشهى أنواع الأطعمة التي يقوم بتقديمها أبناء معسكر الطبخ, والجميع يركب أرقى المراكب التي يصنعها أبناء معسكر المراكب ... إلخ



فلنفترض أن أحد الدول توصلت إلى تكنلوجيا متقدمة جداً, وأصبح بالإمكان اختيار الجينات بدقة لكل إنسان, فاجتمع العلماء لتصميم نموذجين مثاليين للخريطة الجينية, ذكر وأنثى, وبعد ذلك قاموا بزراعة اللاقحة في رحم الأمهات بشكل عشوائي, ليتم بعد ذلك توليد آلاف من البشر, كلهم بنفس المواصفات, متمتعين جميعهم بالقوة والذكاء وسرعة البديهة, وباختصار, إنسان كامل لكل المواصفات. وبعد ذلك يتم أخذ هؤلاء "الكاملين" من أمهاتم, فلا حاجة لأن تعرف الأمهات ابنها, فهذه العاطفة تؤثر سلباً, وكل ما على الأمهات فعله هو إنجاب المزيد من الكاملين, فلا إعاقات هنا ولا تشوهات, وإن حصلت هذه الإعاقات (ولن تحدث) فسيتم قتل الإعاقة والتخلص منها فهي لا تليق باليوتوبيا
ومن ثم يتم تصنيف هؤلاء البشر ضمن أرقام , ونقلهم إلى معسكرات متخصصة لتدريب كل شخص منذ الطفولة بما يتناسب مع احتياجات الدولة, فهناك معسكر للطب, ومعسكر للحرب ... إلخ

ماذا سنقول في وجه مثل هذا المشروع؟؟؟ وإن أيده البعض, سنقول عنه أنه مشروع وحشي, لا إنساني, وهو يخدم مصلحة الدولة نعم, ولكنه لا يخدم مصلحة الفرد, سيشعر أنه "روبوت" متحكم به ليخدم هذه المنظومة الضخمة, مهما قدمت له هذه المنظومة من متع جسدية أو مادية.
تماماً نقول كذلك عن عمليات التطهير العرقي للهنود الحمر عندما دخل الأوروبيون أمريكا الجنوبية عن أنه عمل لا إنساني بالرغم من أنه خدم مصلحة الدولة مادياً واستراتيجياً.
بالطبع هذا المثال لا ينطبق على الدول الحالية, ولكن إذا فكرنا ملياً بالأمر, فهو تضخيم لصورة ما نراه في الدول المتقدمة الغربية التي تعطي حقوق كاملة للمواطن ولكنها لم تعطه متعه الروحية, الدينية منها وغير الدينية, وذلك بجعل الدولة منظومة لخدمة ذاتها ووجودها على الأرض, وخدمة مصلحة الفرد قبل الدولة ماهي إلا وهم صدقه الكثير

في النهاية سأختم بمقولة أحد المفكرين
لقد انفصل الناس عن بعضهم البعض بجدران من المسلح سدت الطريق أمام التواصل والحب, وهزمت الطبيعة باسم التقدم

وكخلاصة, بشكل عام, فالإنسان متلهف لشهواته الجسدية بشتى أنواعها, ولكنها في الحقيقة لا تعني له شيئاً على الصعيد النفسي فهي شهوة يريد أن يسد فراغها وينتهي, ولا يعرف ماذا يفعل بعد ذلك, ولكنه يجد راحة في الغموض, والمعتقدات, والفن والأديان, ما يفسر له وجوده وما يجد فيه هدفه الذي يعيش لأجله, وجميع هذه العوامل الروحية محاربة بشكلها الحالي للدول المدنية الحديثة مما نلاحظ انعدام الأهداف الروحية, ضعف الروابط بين الأسر, حالات الانتحار, عدم القدرة على التعبير, حصر التفكير في مجال  الإنتاج والعمل وابتكار الآلات والتقنيات, بما يخدم الدولة والمجتمع ولكنه لا يعبر عن الوجود الإنساني للشخص وشعوره بقيمته كشخص مستقل, كإنسان منفصل له بصمته المميزة ليست في إبهامه فقط, وإنما بصمته في التأثير والتغيير ومحبة الآخرين له

ولا أحتكر هنا الإجابة على سؤال الموضوع, لك هنا حرية التفكير والمناقشة...

هناك تعليق واحد:

  1. الإنسان أكثر سعيدة قديماً أم حديثاً؟
    لأنه العنوان وظاهر ما كنت لأرى الخطأ اللغوي في كلمة ( سعيدة ) أظن أن الصح ( سعادة )
    أما كلمات المقال عجبتني كثيرًا وتناولك للموضوع من اتجهات متعددة تريد أن تلم بالموضوع لكن الأسطر ستطول وتحتاج لكتاب كبير، تسلم ايدك.

    ردحذف